تحقيققضية بريد المغرب: بحثًا عن المحتالين والأموال القذرة (2/2)
القصة جديرة بأن تكون فيلما مثيرا : مؤسسة عمومية تتعرض للسرقة، وهي في هذه الحالة "كرونوبوست"، التابعة لبريد المغرب و"جيوبوست"، أحد فروع البريد الفرنسي المالك لحصة 33 في المائة من أسهم المشروع المشترك.
كشفنا في السابق، كيف كانت "كرونوبوست" مسرحا لسلسلة من عمليات الاختلاس، بتدبير من قتلة مأجورين ومحتالين محترفين من قلب الإدارة المالية للمؤسسة؛ وقد سمحت العديد من الثغرات في إدارة الشركة لهؤلاء بالاستيلاء على عشرات الملايين من الدراهم نقداً أو عبر تحويلات مالية.
ضمن هذه القضية، وُضع في قفص الإتهام ثم أدين ضحيتان بعد تزوير توقيعاتهما واستعمالها في عملية الاختلاس : ألقي القبض على المدير العام لـ "كرونوبوست"، عبد الرحيم الإدريسي، ومدير الشبكة و خدمة الزبناء، فتحي دومار، وبعد أن قضيا عامين وراء القضبان، أدانتهما المحكمة بسنة سجنا بتهمة "الإهمال الجسيم"، إلا أن تهمتي الإختلاس وتبديد المال العام لم توجه إليهما.
الفرقة الوطنية للشرطة القضائية تدمج القضيتين
الآن، وحسب المعطيات المتاحة لدينا، أعطت الفرقة الوطنية للشرطة القضائية للقضية مسارا جديدا، مع الإشارة إلى أنها شرعت في أبحاثها الأولى في 2022، أي سنتين قبل إطلاق سراح الإدريسي ودومار.
وفق المعطيات ذاتها، فإن تحقيقات الفرقة الوطنية جاءت على خلفية الشكايات المتكررة التي تقدمت بها عائلتا المديرين السابقين في "كرونوبوست" إلى "مؤسسات في الرباط"، من قبيل المجلس الأعلى للسلطة القضائية؛ وتقول مصادرنا : "لقد تم الرد بالإيجاب على الشكايات التي قدمها المتضررون في هذا الصدد، وهو ما يشير إلى وجود خطأ جسيم ارتكب في حقهم".
المطلب الأساسي للعائلات هو الجمع بين القضيتين. تلك المتعلقة بالقتلة المأجورين والأخرى التي تهم المحتالين الفارّين.
العنصر الحاسم في ذلك لم يكن سوى محتويات الهاتف المحمول الخاص بكمال عطرشي، زعيم عصابة القتلة المأجورين، الذي تمت مصادرته في 2022؛ إذ تكشف مقاطع الفيديو والصور والرسائل المكتوبة والصوتية المرسلة عبر تطبيق الواتساب والمكالمات والوثائق، التي اطلع عليها "لوديسك"، العلاقة بين عطرشي ومحمد لكحل، خازن "كرونوبوست"، والذي كان بمثابة حلقة الوصل مع منفذي التهديدات والاعتداءات.
صدر تقرير عن المختبر الجهوي للآثار الرقمية، التابع للشرطة القضائية في الدار البيضاء، منذ عام 2020، وشمل سبعة هواتف أندرويد وأربعة هواتف آيفون، كان من بينها هاتف كمال عطرشي. ووفقًا للتقرير الذي اطلع عليه "لوديسك"، فقد استلم عناصر المديرية العامة للأمن الوطني هذه المواد في 2 مارس 2020؛ وشملت مهام التقرير "إمكانية استخراج جميع المعلومات الواردة في دليل الهاتف والرسائل وسجل المكالمات، بما في ذلك البيانات المحذوفة والمخفية".
يطلق محمد لكحل على نفسه اسم "حمودة" في محادثاته مع أصدقائه، ويعرف جيدا كمال عطرشي لدرجة أن هذا الأخير يصوره بانتظام على سناب شات في الملاهي الليلية. وفي أحد الفيديوهات، يظهر وهو يغني إلى جانب مطرب في ملهى ليلي ملتقطا الميكروفون : "حمودة يبغي البيضا، شوفوه بجوج ملاين !". وفي أحد المشاهد المعتادة عند رواد "الكباريهات"، يتسلى "حمودة"، وهو يرقص، بجعل الأوراق النقدية تتطاير في أرجاء القاعة.
اقتنع المحققون بالترابط بين القضيتين بناء على العلاقة الوطيدة التي كانت تجمع بين عطرشي ولكحل. وقد أظهرت تسجيلات صوتية أخرى، مستخرجة من محادثات على الواتساب، أن الشخصين كانا يتراسلان بانتظام بشأن مهمة اغتيال المدير الإداري والمالي لـ "كرونوبوست"، محمد الكردودي، وكذا، تصفية المدير العام عبد الرحيم الإدريسي.
وبالإضافة إلى محتويات الهاتف المحمول التي تم استخراجها، كان أحد العناصر الحاسمة بيد الفرقة الوطنية للشرطة القضائية هو ”العمل الجيد“ الذي قام به أفراد من عائلة المدير العام السابق لـ "كرونوبوست"، الذين عملوا، وجلهم من النساء، خلال فترة سجن عبد الرحيم الإدريسي على جمع كل الأدلة اللازمة حول كمال عطرشي وصلته بمحتالي "كرونوبوست"
صور تم نشرها على شبكات التواصل الاجتماعي تُظهر التواطؤ بين لكحل والعصابة، وسندات ملكية عقارات اقتنيت تزامنا مع مجريات الأحداث، وفيلات بيعت وقت بدء التحقيق، وأدلة براءة الإدريسي من خلال الخبرة التي أجريت لإظهار طبيعة التوقيعات المزورة..، في المجموع، سيتم إضافة ما لا يقل عن 30 وثيقة إلى ملف القضية من قبل عائلة عبد الرحيم الإدريسي، "لإنارة التحقيق"، ويقول مصدر مقرب من القضية : "لقد قاموا بعمل الشرطة".
كان ذلك كافيًا لدفع الفرقة الوطنية للشرطة القضائية إلى البدء في البحث عن محمد لكحل وعبد الإله كيكي.
وحسب تقرير أعدته المؤسسة الأمنية، فقد تقرر "تعقب تحركات عبد الإله كيكي ومحمد لكحل داخل وخارج التراب الوطني، وإذا تأكدت مغادرتهما للتراب الوطني، سيجري إعداد مذكرة معلومات مفصلة حول الموضوع بشكل عاجل من أجل إصدار مذكرة دولية لاعتقالهما".
وفيما يخص عبد الإله كيكي، فتأكد مصادرنا أنه يوجد حاليا في إسبانيا، أما بخصوص محمد لكحل، فإن المعلومات التي جمعتها الشرطة قادت الفرقة الوطنية إلى منزل والده بالدار البيضاء.
تقرير الفرقة الوطنية للشرطة القضائية جدير بمسلسل تشويق على منصة "نتفلكس" : حاصرت الشرطة المنزل واستجوبت لكحل الوالد الذي نفى وجود نجله في المكان، لكن ضابط شرطة قال له : "لقد رأيناه يراقبنا من النافذة"، تزامنا مع ذلك، وبلمح البصر، اقتحمت سيارة "فولكس فاغن طوارق" رباعية الدفع الباب المعدني لمرآب السيارات، وانحرفت مهددةً بدهس ضابط شرطة ثم لاذت بالفرار. لقد كان محمد لكحل على متنها. فشل البحث في تحديد مكان السيارة الهاربة، قبل العثور عليها فيما بعد مهجورة من قبل راكبها.
كانت هذه هي المرة الأخيرة التي تقترب فيها الشرطة من محمد لكحل، الفار من العدالة ما يزال، إلى حدود كتابة هذا المقال.
وللتأكد من صحة الأطروحة المتعلقة بوجود حالة فريدة لمحاولة القتل والاحتيال، استمعت عناصر الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بإسهاب إلى المدير الإداري المالي الأسبق، والذي الذي سرد جميع الأحداث التي كان شاهدًا عليها، كما هو موضح في الجزء الأول من هذا التحقيق.
أوضح كمال عطرشي، الذي تم استجوابه أيضًا، أنه تم إبلاغه بأن المدير الإداري والمالي السابق، محمد الكردودي، لن يعود إلى مقر المقاولة في أي وقت، ولن تكون لديه إمكانية لمزاولة عمله. وقد تأكدت بعد ذلك إفادات الكردودي، كما أشارت الفرقة الوطنية إلى أمر جاء لعطرشي بالتظاهر عبر الهاتف بأنه مهرب يسعى إلى استرداد مبلغ كبير من المال من الشخص الذي كان من المقرر أن يبيع شحنة من الكوكايين. وقد استُخدم هذا السيناريو لتخويف الكردودي وإبعاده من منصبه في "كرونوبوست".
في نهاية المطاف، بخصوص عبد الإله كيكي، الذي حل مكان الكردودي، كمدير إداري ومالي بالنيابة، فيوضح تحقيق الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بأنه تم تحديد موقعه بالخارج، في إسبانيا على وجه التحديد، وبأنه سيتم إصدار مذكرة اعتقال دولية عبر منظمة الشرطة الجنائية الدولية - الإنتربول-.
كيكي المبتز وصهره المغني
يُعتقد أن عبد الإله كيكي، المقيم في إسبانيا والذي صدرت بحقه نشرة حمراء من الإنتربول، هو العقل المدبر وراء هذه القضية، إذ قام بتدبير عملية السطو على "كرونوبوست" حتى قبل ترقيته إلى منصب المدير الإداري والمالي بالنيابة؛ فبين عامي 2017 و2021، وفقًا لما تم الكشف عنه حتى الآن، قم بسرقة 6.5 مليون درهم عن طريق الوضع التصرف نقدا.
ليست هذه هي القضية الأولى لكيكي، فقد سبق أن تورط في ملف آخر، والذي بالرغم من مستوى التشابه الأقل مع هذه القضية، إلا أنه كان من الممكن أن يكون تحذيرا بشأن خلفيته. سنة 2014، وُضعت شكاية ضده بتهمة تزوير مستندات بنكية، لما كان يعمل محاسبا لدى "سيميكوم" (نورتيس سابقًا)، وهي شركة معروفة في قطاع الاتصالات وخدمات شبكة الأقمار الاصطناعية، فبينما كان يعمل بموجب عقد عمل دائم براتب شهري قدره 11 ألف درهم، استخدم محرّرات مزورة "لإظهار مبالغ تخص الشركة لصالح أشخاص آخرين لا علاقة لهم بالمقاولة"، وقد بلغ إجمالي المبالغ المختلسة 738 ألف درهم.
للاحتيال على "سيميكوم"، استخدم كيكي شركته "فيدوكونسولتينغ"، وهي شركة محاسبة يقول على موقع "لينكد إن" إنه رئيسها ويملك نصف أسهمها إلى جانب زوجته حنان إدار. تعود الأحداث سنة 2011.
بعد ذلك بعامين، رفع أحد أصحاب المطاعم دعوى قضائية ضد كيكي مدعيا أنه دفع له مبلغ 6000 درهم لإجراء المحاسبة لصالح مؤسسته لكنه لم يفعل ذلك.
انتقل كيكي من المكائد الصغيرة بين 2011 و2016، إلى السرعة القصوى مع "كرونوبوست"، فقد أنشأ شبكة كاملة ومخططًا شاملا لإبعاد المدير الإداري والمالي السابق من المؤسسة، وكما يقال، فإن الغاية تبرر الوسيلة، إذ ذهب إلى حد الإشراف على عمليات التهديد، وكذلك محاولات الاغتيال، وقد فهمنا لاحقًا من التسجيلات المتبادلة بين المتورطين، أن الأمر كان يتعلق حقًا بالتخلص من المدير الإداري والمالي السابق وكذلك المدير العام.
علاوة على "فيدوكونسولتينغ"، كما يمتلك عبد الإله كيكي شركتين مرتبطتين بقطاع خدمات المأكولات : "فونديري ملاك" ومقهى "الطرب الأصيل"، إحداهما بالمحمدية والأخرى بالدار البيضاء، في الماضي، لأنه اعتبارًا من نهاية عام 2021، سيفسح كيكي المجال تدريجيًا لزوجته حنان إدار، ولكن أيضًا وقبل كل شيء لشقيقها : المغني حاتم إدار.
ووفقاً للمعلومات المتوفرة لدينا، سيتنازل عبد الإله كيكي سنة 2021 عن بعض سندات الملكية لصالح حاتم إدار، ويشمل ذلك قطعة أرض زراعية مساحتها 37 هكتاراً بسيدي عدي.
لكحل وعطرشي، رواد الحفلات الطلقاء
من جانبه، قام محمد لكحل، الشخصية الأخرى في الشبكة، ببيع ممتلكاته المتنوعة إما لزوجته وأبنائه أو لوالديه، وعلم "لوديسك" أن فيلا في بوسكورة قد تم شراؤها بمبلغ 8 ملايين درهم ثم أعيد بيعها.
لا توجد معلومات حاليًا عن مكان وجود لكحل، وبينما هو في حالة فرار، فإننا بالكاد نعلم أنه ليس على تواصل مع أسرته المقربة.
يشير التحقيق إلى أن محمد لكحل كان بمثابة حلقة الوصل الرئيسية بين القتلة المأجورين ومحتالي "كرونوبوست"، وقد بدأت العلاقة بينه وعطرشي، زعيم العصابة، على شكل صداقة. ويعج هاتف عطرشي المحمول بصور ومقاطع فيديو لصديقه لكحل، التي كان يلتقطها له بانتظام في ملاهي الدار البيضاء.
كما اعتمد عطرشي على صديقه "حمودة" للحصول على المعلومات اللازمة لتعقب موظفي "كرونوبوست".
وتظهر التسجيلات الصوتية المتبادلة على تطبيق واتساب، والتي تمكن "لوديسك" من الوصول إليها، أن كمال عطرشي أبلغ لكحل بانتظام عن الطريقة التي يدير بها فريقه الذي كان يتعقب موظفي كرونوبوست.
بالنسبة لكمال عطرشي، فقد استعاد حريته وغادر السجن، بعد أن أدين استئنافيا سنة 2022 بتهمة التهديد وتشكيل عصابة إجرامية، وقد حُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات في الدرجة الأولى، قبل أن يتم تخفيف الحكم إلى سنتين في الاستئناف.
حسب مصادرنا، فإن عطرشي يعيش حياة جديدة : إذ يدير وكالة لكراء السيارات، ويلتقط بانتظام صوراً للسيارات الفاخرة ويتبختر فيها. وفي أحد فيديوهاته المنشورة على "إنستغرام"، يمكن رؤيته وهو يوقع بسرعة على وثائق شراء سيارة، مصرّا على أن ذلك "ثمرة عمل شاق". وبعد أن كان فيما مضى على رأس عصابة للقتلة المأجورين، يبدو أنه وجد الموارد اللازمة لإحداث هذا التحول الفجائي في حياته، دون أن يشعر بالقلق، على الأقل في الوقت الراهن…
لقراءة الجزء الأول من هذا التحقيق بالعربية :
قضية بريد المغرب : قتلة مأجورون ومحتالون وراء السطو على كرونوبوست
للإطلاع على القصة الكاملة بالفرنسية :
Affaire Barid Al-Maghrib : tueurs à gages et fraudeurs derrière le casse de Chronopost (1/2)
Affaire Barid Al-Maghrib : à la recherche des truands et de l'argent sale (2/2)
Affaire Barid Al-Maghrib : la négligence coupable de PwC dans le contrôle de Chronopost
Affaire Barid Al-Maghrib : les millions de Chronopost sortis en cash de Bank Of Africa
Affaire Barid Al-Maghrib : l’ex-DG de Chronopost témoigne de son calvaire
©️ Copyright Pulse Media. Tous droits réservés.
Reproduction et diffusions interdites (photocopies, intranet, web, messageries, newsletters, outils de veille) sans autorisation écrite.